أحمد مختار عمر.. عاشق العربية وخادم القرآن | ||
| ||
وتناول مني بعض كتب كانت معي، وأخبرني بعزمه على عمل بحث كبير عن اللغة والمصطلحات المحدثة في كتب المثقفين والمفكرين العرب، كنت أنظر مندهشا ومأخوذا من هذا العشق الذي يخترق الروح للغة القرآن حتى يملك عليه كل جنبات حياته، وبعدها بسويعات لا تُحسب في الأيام أتاني خبر وفاته. عشق وجهاد.. أو سيرة علمية تشرب أحمد مختار عمر حب اللغة مبكرا في بيت والده الأستاذ عبد الحميد عمر الذي كان من رجال التربية والتعليم، ثم التحق بعد ذلك بمحكمة النقض؛ فكان يعرف بسيبويه محكمة النقض بعد إنشائها، وتولّي عبد العزيز باشا فهمي رئاستها، الذي ينتسب معه لعائلة واحدة هي عائلة "عمر" بكفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، وهي عائلة بزغ منها عدد من أبرز رموز السياسة في مصر قبل وبعد ثورة يوليو. وقد ولد أحمد مختار بالقاهرة عام 1933، فحفظ القرآن صغيرا، ثم التحق بالأزهر، ثم دار العلوم، وقد حصل على الليسانس منها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الثانية، وكان أول دفعته سنة 1958، وحصل على الماجستير في علم اللغة من كلية دار العلوم بتقدير امتياز 1963 حول تحقيقه وإخراجه ديوان الأدب للفارابي الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة في 5 مجلدات من عام 1974-1979، ثم حصل على الدكتوراة في علم اللغة من جامعة كمبريدج ببريطانيا 1967. فجمع بين التراث والمعاصرة من أوسع أبوابهما. مشروع لغوي متكامل لم يكن أحمد مختار عمر -كما يذكر الأستاذ فاروق شوشة- مجرد أستاذ لعلم اللغة، ولكنه كان حركة علمية دائبة، تنشر وهجها في كل موقع يشغله؛ فقد كان رحمه الله مقرر لجنة المعجم العربي الحديث بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي، وهو المستشار لكثير من الهيئات والمؤسسات المصرية والعربية؛ من بينها: لجنة مدخل قاموس القرآن الكريم بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ولجنة المعجم العربي الأساسي بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، والهيئة الاستشارية لمعهد المخطوطات العربية وغيرها. وقد عشق أحمد مختار عمر العربية، وعرف أسرارها منذ زمن مبكر، وتشهد بذلك تعليقاته اللغوية والثقافية وهو لا يزال غضا في مجلات الرسالة للزيات، والثقافة لأحمد أمين، والرسالة الجديدة ليوسف السباعي وغيرها؛ فكان -رحمه الله- أقرب لمفكر ومحارب متزن على ثغر اللغة والثقافة، يقدر الجدية والمثابرة التي عرفتها جهود علماء التراث، ويتابع الحديث والمعاصر دون انغلاق أو ذوبان؛ فترك لنا تراثا كبيرا يضم ما ينيف عن ثلاثين كتابا، تتنوع ما بين التحقيق والتأليف والترجمة، كما تحسب وتعرف له ريادته في تحقيق ديوان الأدب للفارابي والمنجد في اللغة. ويشهد للدكتور مختار عمر ريادته في العربية بثلاثة أعمال هي: 1- كتابه "في علم الدلالة" الذي يعد الأشهر والجامع المانع في مادته ورؤاه. 2- طرقه لعدد من مباحث علم اللغة العربية التي لم يسبق لغيره فيها نصيب، من قبيل كتابه "اللغة واللون"، وكتابه "اللغة والنوع". 3- صناعة المعجم العربي نظرا وتطبيقا: فكان كتابه "صناعة المعجم العربي" الصادر في سنة 1999 هو الأول في مجاله عربيا، وكان مؤسسا لصناعة المعاجم والجمع بين الذخيرة التراثية الهائلة ووسائل التقنية الحديثة، وما ينبغي التزامه أو اجتنابه من عمليات إجرائية أثناء تنفيذ المعاجم، كما قرأ المعاجم المعاصرة والقديمة عربيا ودوليا، كما أن جهوده التطبيقية في عمل المعاجم اللغوية والثقافية تجعله أبرز المعجميين العرب المحدثين دون مبالغة. وبشكل عام تتبلور أهم جهوده البحثية فيما يلي: 1- التعريف بأهم منجزات اللغويين العرب في مجالات الأصوات، والصرف، والنحو، والمعجم، والدلالة، ووضع الجهد العربي في مكانه المناسب بين الجهود اللغوية العالمية، وبيان مدى التأثير والتأثر من كلا الجانبين. 2- تحقيق النصوص اللغوية ذات القيمة العلمية المرموقة، وتمثل ذلك في تحقيق معجمين رائدين هما ديوان الأدب للفارابي اللغوي، والمنجد في اللغة لكراع. 3- فتح نافذة يطل منها اللغويون العرب على أهم الإنجازات العالمية في مجال الدراسات اللغوية الحديثة، وقد تحقق ذلك من خلال ترجماته من الإنجليزية إلى العربية، أو المؤلفات التي تجمع بين القديم والجديد، أو من خلال عرض بعض الكتب اللغوية الأجنبية في الدوريات العربية. 4- تأليف المعاجم مثل المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم والقراءات، ومعجم "المكنز الكبير"، بالإضافة إلى معجمين تحت الطبع هما: "معجم الصواب اللغوي"، و"معجم ألفاظ الحضارة في القرآن الكريم". كما ألف كتاب "صناعة المعجم الحديث". كما شارك في تأليف بعض المعاجم مثل: المعجم العربي الأساسي، ومعجم القراءات القرآنية. 5- تصحيح لغة الإعلام، ومتابعة الانحرافات اللغوية الشائعة في لغة المثقفين لتقويمها، وبيان الخطأ والصواب فيها، وقد تمثل ذلك في كتابه "العربية الصحيحة"، و"أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين". 6- تأليف الكتب الميسِّرة لتعليم قواعد اللغة العربية والتدريب على الأساليب الصحيحة، وقد كتب في ذلك "النحو الأساسي"، و"التدريبات اللغوية والقواعد النحوية". 7- فتح آفاقا جديدة في مجال الدرس اللغوي، وتناول موضوعات طريفة لم تسبق دراستها مع جاذبيتها وأهميتها للمثقف العام؛ مثل تاريخ اللغة العربية في مصر، واللغة واللون، واللغة واختلاف الجنسين. 8- عرض نشاطه اللغوي الذي قدمه من خلال عضويته لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقد تمثل ذلك في كتابه "أنا واللغة والمجمع". 9- مراجعاته التوثيقية لبعض الكتب التراثية، مثل مراجعته لثلاثة أجزاء من "معجم تاج العروس" للزبيدي، وكتاب "الموضح في التجويد" لعبد الوهاب القرطبي. جهود رائدة في الدراسات القرآنية تنوع عطاء المرحوم الدكتور أحمد مختار عمر في مجال الدراسات القرآنية على مجالين أساسين: أ- القراءات القرآنية: فقد أخرج بالاشتراك مع الدكتور عبد العال سالم سنة 1985 "معجم القراءات القرآنية" في ثمانية أجزاء، مع تقديم طويل يكاد يكون كتابا في تاريخ القرآن الكريم والقراءات وأشهر القراء، أعقبتها قائمة بمراجع تبلغ ما يقرب من تسعين مرجعا. ويحوي هذا المعجم ثروة لغوية ضخمة لا يستغني عنها دارس للغة العربية، وقد اعتمد هذا المعجم على عدد كبير من المصادر، روعي فيها استيعاب المصادر الرئيسة للقراءات السبع والعشر والأربع عشر والشاذة؛ مثل السبعة لابن مجاهد، والتيسير للداني، والحجة لابن خالويه، والمحتسب لابن جني وغيرها. كما اشتملت على المصادر الرئيسة في التفسير وإعراب القرآن مثل معاني القرآن للفراء، ومعاني القرآن للأخفش، وإعراب القرآن المنسوب للنحاس، ومفاتيح الغيب للرازي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي. كما رتبت القراءات على حسب ترتيب المصحف، مع الاعتماد أساسا على قراءة حفص. ثم أخرج الدكتور أحمد مختار عمر سنة 2002 المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم وقراءاته، وهو يجمع بين العمل التفسيري والفهرسي، ويتميز بلغة سهلة مبسطة تفيد العامة كما تفيد الخاصة؛ لاستيعابه ما سبق من جهود قديمة وحديثة في هذا المجال. ب- لغة القرآن والتفنن فيها: ونجد في هذا الباب كتابه "لغة القرآن.. دراسة توثيقية فنية" سنة 1993، وكتابه "دراسات لغوية في القرآن الكريم وقراءاته" سنة 2001، وكتابه "أسماء الله الحسنى.. دراسة في البنية والدلالة" سنة 1997 وكتابه "الاشتراك والتضاد في القرآن الكريم.. دراسة إحصائية" سنة 2002. وفي هذه الكتب الأربع يتجلى العالم اللغوي الذي ترجم وتابع وراد طرقا غير مسبوقة في البحث اللغوي العربي الحديث، وهو يستكنه أسرار الإعجاز القرآني بأدوات بحث أصيلة أرسخ ما تكون الأصالة، ومعاصرة أفضل ما تكون المعاصرة، لا يفارقه الاجتهاد والاستنباط (حضور الباحث وواجبه) في تناوله لمختلف المسائل؛ ففي كتابه عن الأسماء الحسنى المشار إليه يلاحظ ورود بعض الأسماء مقترنة بأضدادها مثل "الأول والآخر، والمبدئ والمعيد، والظاهر والباطن... إلخ"، وجاء البعض الآخر من الأسماء والصفات متلازما لتقوية المعنى مثل "الرحمن الرحيم، العزيز الجبار، الخالق البارئ، السميع البصير"، ويلاحظ أن اسم "الرحمن" كان معروفا إطلاقه على الله من قبل الإسلام؛ فقد ورد في شعر امرئ القيس والأعشى، كما أنه الاسم الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لعبد عوف بعد إسلامه؛ فقد سماه عبد الرحمن بن عوف، وهو مما يختص به الله تعالى؛ فلا يأتي إلا مسبوقا بـ"عبد"، ولا يوصف به أحد مثل اسم "رب " أو "رحيم"؛ فقد وصف الله النبي في كتابه بأنه "رءوف رحيم"، وتضاف لفظة "رب" بمعنى صاحب إلى غيرها. ومن الآثار الطيبة للراحل الجليل معجمه عن "ألفاظ الحضارة في القرآن الكريم"؛ وهو يدل على وعي ثقافي رائد للراحل الجليل تسعى بصدق من أعماق التخصص لنفض الافتراءات على الإسلام وحضارته، من خلال اللغة التي أكد أحمد مختار عمر دائما على أنها حامل الثقافة وعلامة الحضارة في غير تعصب أو اختزال. أخلاق العلماء يقول الأستاذ عاطف بركات أول مدير لمدرسة القضاء الشرعي: "إن الأستاذ ينبغي أن ينزل من تلامذته منزل الوالد من ولده حبا، والشيخ من مريديه قدوة وهيبة". وقد كان الدكتور أحمد مختار عمر أستاذا مهيبا ووالدا رحيما؛ يرحم حين يشتد، ويشتد حين يرحم، يرفض في العمل الخفة والتزاكي، كما يثني على الجهد الطيب نقدا وإضافة، منكرا لذاته غير مقدس لها، متواضعا في غير ضعف، وشجاعا في غير تهور، أشهد أن الروح النقدية لأوضاع البحث العلمي في مصر وصغارات كثير من القائمين عليها كانت تستفزه دائما، ولكن كان الغاضب للعلم الذي لا يفارق الأدب والهدوء منطقه. عرفته المؤسسات التي تعامل معها جادا متجردا للعمل؛ وهو ما أتاح له أن يكون الأبرز والأكثر إنتاجا وسط المعجميين العرب المعاصرين، ليس من هؤلاء الذين يسيل لعابهم لوسائل الإعلام أو أصحاب النفوذ، يشهد بذلك كل من عرفه. ففي أحد المشاريع التي كانت تشرف عليها مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، توقف العمل فترة مؤقتة، واستمرت مكافأته، فطلب من أمينها العام -الكاتب الكبير عبد العزيز السريع الذي يشهد بذلك- وقف مرتبه لأنه لا يقوم بما يكافئه، هذا هو الورع والصرامة التي صار يفتقدها البعض ممن ينتمون للمجال الأكاديمي والثقافي في مصر الآن. وقد توفي رحمه الله يوم الجمعة 4-4-2003، وصدر عن مؤسسة البابطين للإبداع الشعري كتاب تذكاري، شارك فيه عدد كبير من أصدقائه وتلامذته وعارفيه عام 2004، ولا يملك عارفو هذا الرجل إلا أن يتوجهوا لهذه المؤسسة بالشكر والامتنان لما قامت به من جهد وإتاحة الفرصة لهم للاعتراف بجميل هذا الرائد العاشق للعربية. |
Sunday, March 28, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment